فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قالوا: والسبب فيه أن النخلة إذا تركوا عليها الثمر من السنة إلى السنة انتفعوا بها في جميع أوقات السنة.
وأقول: هؤلاء وإن أصابوا في البحث عن مفردات ألفاظ الآية، إلا أنهم بعدوا عن إدراك المقصود، لأنه تعالى وصف هذه الشجرة بالصفات المذكورة، ولا حاجة بنا إلى أن تلك الشجرة هي النخلة أم غيرها، فإنا نعلم بالضرورة أن الشجرة الموصوفة بالصفات الأربع المذكورة شجرة شريفة ينبغي لكل عاقل أن يسعى في تحصيلها وتملكها لنفسه، سواء كان لها وجود في الدنيا أو لم يكن، لأن هذه الصفة أمر مطلوب التحصيل، واختلافهم في تفسير الحين أيضًا من هذا الباب، والله أعلم بالأمور.
ثم قال: {وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} والمعنى: أن في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني، وذلك لأن المعاني العقلية المحضة لا يقبلها الحس والخيال والوهم، فإذا ذكر ما يساويها من المحسوسات ترك الحس والخيال والوهم تلك المنازعة وانطبق المعقول على المحسوس وحصل به الفهم التام والوصول إلى المطلوب.
وأما قوله تعالى: {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجتثت مِن فَوْقِ الأرض مَا لَهَا مِن قَرَارٍ}.
فاعلم أن الشجرة الخبيثة هي الجهل بالله، فإنه أول الآفات وعنوان المخافات ورأس الشقاوات ثم إنه تعالى شبهها بشجرة موصوفة بصفات ثلاثة:
الصفة الأولى: أنها تكون خبيثة فمنهم من قال إنها الثوم، لأنه صلى الله عليه وسلم وصف الثوم بأنها شجرة خبيثة، وقيل: إنها الكراث.
وقيل: إنها شجرة الحنظل لكثرة ما فيها من المضار وقيل: إنها شجرة الشوك.
واعلم أن هذا التفصيل لا حاجة إليه، فإن الشجرة قد تكون خبيثة بحسب الرائحة وقد تكون بحسب الطعم، وقد تكون بحسب الصورة والمنظر وقد تكون بحسب اشتمالها على المضار الكثيرة والشجرة الجامعة لكل هذه الصفات وإن لم تكن موجودة، إلا أنها لما كانت معلومة الصفة كان التشبيه بها نافعًا في المطلوب.
والصفة الثانية: قوله: {اجتثت مِن فَوْقِ الأرض} وهذه الصفة في مقابلة قوله: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} ومعنى اجتثت استؤصلت وحقيقة الإجتثاث أخذ الجثة كلها، وقوله: {مِن فَوْقِ الأرض} معناه: ليس لها أصل ولا عرق، فكذلك الشرك بالله تعالى ليس له حجة ولا ثبات ولا قوة.
والصفة الثالثة: قوله ما لها من قرار، وهذه الصفة كالمتممة للصفة الثانية، والمعنى أنه ليس لها استقرار.
يقال: قر الشيء قرارًا كقولك: ثبت ثباتًا، شبه بها القول الذي لم يعضد بحجة فهو داحض غير ثابت.
واعلم أن هذا المثال في صفة الكلمة الخبيثة في غاية الكمال، وذلك لأنه تعالى بين كونها موصوفة بالمضار الكثيرة، وخالية عن كل المنافع أما كونها موصوفة بالمضار فإليه الإشارة بقوله: {خَبِيثَةٍ} وأما كونها خالية عن كل المنافع فإليه الإشارة بقوله: {اجتثت مِن فَوْقِ الأرض مالَهَا مِن قَرَارٍ} والله أعلم.
{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)}.
اعلم أنه تعالى لما بين أن صفة الكلمة الطيبة أن يكون أصلها ثابتًا، وصفة الكلمة الخبيثة أن لا يكون لها أصل ثابت بل تكون منقطعة ولا يكون لها قرار ذكر أن ذلك القول الثابت الصادر عنهم في الحياة الدنيا يوجب ثبات كرامة الله لهم، وثبات ثوابه عليهم، والمقصود: بيان أن الثبات في المعرفة والطاعة يوجب الثبات في الثواب والكرامة من الله تعالى فقوله: {يُثَبّتُ الله} أي على الثواب والكرامة، وقوله: {بالقول الثابت في الحياة الدنيا وَفِى الأخرة} أي بالقول الثابت الذي كان يصدر عنهم حال ما كانوا في الحياة الدنيا.
ثم قال: {وَيُضِلُّ الله الظالمين} يعني كما أن الكلمة الخبيثة ما كان لها أصل ثابت ولا فرع باسق فكذلك أصحاب الكلمة الخبيثة وهم الظالمون يضلهم الله عن كراماته ويمنعهم عن الفوز بثوابه وفي الآية قول آخر وهو القول المشهور أن هذه الآية وردت في سؤال الملكين في القبر، وتلقين الله المؤمن كلمة الحق في القبر عند السؤال وتثبيته إياه على الحق.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله: {يُثَبِّتُ الله الذين ءامَنُواْ بالقول الثابت في الحياة الدنيا وَفِى الأخرة} قال: «حين يقال له في القبر من ربك وما دينك ومن نبيك فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبي محمد صلى الله عليه وسلم» والمراد في الباء في قوله: {بالقول الثابت} هو أن الله تعالى إنما ثبتهم في القبر بسبب مواظبتهم في الحياة الدنيا على هذا القول، ولهذا الكلام تقرير عقلي وهو أنه كلما كانت المواظبة على الفعل أكثر كان رسوخ تلك الحالة في العقل والقلب أقوى، فكلما كانت مواظبة العبد على ذكر لا إله إلا الله وعلى التأمل في حقائقها ودقائقها أكمل وأتم كان رسوخ هذه المعرفة في عقله وقلبه بعد الموت أقوى وأكمل.
قال ابن عباس: من داوم على الشهادة في الحياة الدنيا يثبته الله عليها في قبره ويلقنه إياها وإنما فسر الآخرة هاهنا بالقبر، لأن الميت انقطع بالموت عن أحكام الدنيا ودخل في أحكام الآخرة وقوله: {وَيُضِلُّ الله الظالمين} يعني أن الكفار إذا سئلوا في قبورهم قالوا: لا ندري وإنما قال ذلك لأن الله أضله وقوله: {وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ} يعني إن شاء هدى وإن شاء أضل ولا اعتراض عليه في فعله ألبتة. اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}.
رَوَى أَبُو ظَبْيَانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: غَدْوَةٌ وَعَشِيَّةٌ.
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هِيَ النَّخْلَةُ تُطْعَمُ فِي كُلِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَامِرٍ وَعِكْرِمَةَ.
وَرَوَى اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أَرَى الْحِينَ سَنَةً، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الْحَكَمِ وَحَمَّادٍ مِنْ قَوْلِهِمَا، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي رِوَايَةٍ مِنْ قَوْلِهِ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: الْحِينُ شَهْرَانِ، مِنْ حِينِ تُصْرَمُ النَّخْلُ إلَى أَنْ تَطْلُعَ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ النَّخْلَةَ لَا تَكُونُ فِيهَا أُكُلُهَا إلَّا شَهْرَيْنِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْحِينَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ.
وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْحِينِ فَقَالَ: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ}: سِتَّةَ أَشْهُرٍ، {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ}: ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}: يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَرَوَى هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا وَكَذَا إلَى حِينٍ فَغُلَامُهُ حَرٌّ، فَأَتَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَسَأَلَهُ، فَسَأَلَنِي عَنْهَا فَقُلْت: إنَّ مِنْ الْحِينِ حِينٌ لَا يُدْرَكُ قَوْلُهُ: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إلَى حِينٍ} فَأَرَى أَنْ يُمْسَكَ مَا بَيْنَ صِرَامِ النَّخْلِ إلَى حَمْلِهَا فَكَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الْحَسَنِ: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} قَالَ: مَا بَيْنَ سِتَّةِ الْأَشْهُرِ أَوْ السَّبْعَةِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْحِينُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى وَقْتٍ مُبْهَمٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يُرَادَ بِهِ وَقْتٌ مُقَدَّرٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} ثُمَّ قَالَ: {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} فَهَذَا عَلَى وَقْتِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَوَقْتِ الظُّهْرِ وَوَقْتِ الْمَغْرِبِ عَلَى اخْتِلَافٍ فِيهِ لِأَنَّهُ قَدْ أُرِيدَ بِهِ فِعْلُ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، فَصَارَ {حِينَ} فِي هَذَا الْمَوْضِعِ اسْمًا لِأَوْقَاتِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ.
وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْهُ فِي الْحِينِ أَنَّهُ غَدْوَةٌ وَعَشِيَّةٌ ذَهَبَ إلَى مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ أَقْصَرُ الْأَوْقَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} وَهَذَا عَلَى وَقْتُ الرُّؤْيَةِ وَهُوَ وَقْتٌ قَصِيرٌ غَيْرُ مُمْتَدٍّ.
وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً لِأَنَّهُ رُوِيَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ} أَنَّهُ أَرَادَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَالسَّنَةُ وَالسِّتَّةُ الْأَشْهُرُ وَالثَّلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَالشَّهْرَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَأْوِيلِ السَّلَفِ لِلْآيَةِ كُلُّهُ مُحْتَمَلٌ فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ الْحِينَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى وَقْتٍ مُبْهَمٍ وَعَلَى أَقْصَرِ الْأَوْقَاتِ وَعَلَى مُدَدٍ مَعْلُومَةٍ بِحَسَبِ قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ.
ثُمَّ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ فُلَانًا حِينًا أَنَّهُ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ أَقْصَرَ الْأَوْقَاتِ، إذْ كَانَ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا يُحْلَفُ عَلَيْهِ فِي الْعَادَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ الْحَلِفَ عَلَى أَرْبَعِينَ سَنَةً حَلَفَ عَلَى التَّأْبِيدِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ.
ثُمَّ كَانَ قَوْله تَعَالَى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} لَمَّا اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا كَانَ أَقْصَرُ الْأَوْقَاتِ فِيهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ لِأَنَّ مِنْ حِينِ الصِّرَامِ إلَى وَقْتِ أَوَانِ الطَّلْعِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ السَّنَةِ لِأَنَّ وَقْتَ الثَّمَرَةِ لَا يَمْتَدُّ سَنَةً بَلْ يَنْقَطِعُ حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ، وَإِذَا اعْتَبَرْنَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ كَانَ مُوَافِقًا لِظَاهِرِ اللَّفْظِ فِي أَنَّهَا تُطْعَمُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَتَنْقَطِعُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ.
وَأَمَّا الشَّهْرَانِ فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ مَنْ اعْتَبَرَهُمَا لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ مِنْ وَقْت الصِّرَامِ إلَى وَقْتِ خُرُوجِ الطَّلْعِ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرَيْنِ، فَإِنْ اُعْتُبِرَ بَقَاءُ الثَّمَرَةِ شَهْرَيْنِ فَإِنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ مِنْ وَقْتِ خُرُوجِ الطَّلْعِ إلَى وَقْتِ الصِّرَامِ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرَيْنِ أَيْضًا، فَلَمَّا بَطَلَ اعْتِبَارُ السَّنَةِ وَاعْتِبَارُ الشَّهْرَيْنِ بِمَا وَصَفْنَا ثَبَتَ أَنَّ اعْتِبَارَ السِّتَّةِ الْأَشْهُرِ أَوْلَى آخِرُ سُورَةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ نُزُولِهَا عَلَى مَعْنَاهَا: رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ الْحَبْحَابِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِنَاعٍ مِنْ رُطَبٍ، فَقَالَ: مَثَلُ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ الْآيَةَ قَالَ: هِيَ النَّخْلَةُ».
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ، مَثَلُهَا كَمِثْلِ الْمُسْلِمِ، خَبِّرُونِي مَا هِيَ» الْحَدِيثَ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ النَّخْلَةُ»، فَذَكَرَ خِصَالًا فِي هَذِهِ الشَّجَرَةِ، وَمِنْهَا أَنَّهَا تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ الْحِينِ: وَفِيهِ عَشَرَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ سَاعَةٌ أَقَلُّ الزَّمَانِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ غُدْوَةٌ وَعَشِيَّةٌ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ شَهْرَانِ؛ قَالَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
السَّادِسُ: أَنَّهُ سَنَةٌ؛ قَالَهُ عَلِيٌّ.
السَّابِعُ: أَنَّهُ سَبْعَةُ أَعْوَامٍ.
الثَّامِنُ: أَنَّهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً.
التَّاسِعُ: أَنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
الْعَاشِرُ: أَنَّهُ مَجْهُولٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَحْقِيقِ مَعْنَاهُ: اعْلَمُوا أَفَادَكُمْ اللَّهُ الْعِرْفَانَ أَنَّا قَدْ أَحْكَمْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ مَلْجَئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ؛ وَنَحْنُ الْآنَ نُشِيرُ إلَى مَا يُغْنِي فِي ذَلِكَ الْغَرَضِ، وَيُشْرِفُ بِكُمْ عَلَى مَقْصُودِ الْفَتْوَى الْمُفْتَرَضِ، فَنَقُولُ: إنَّ الْحِينَ ظَرْفُ زَمَانٍ، وَهُوَ مُبْهَمٌ لَا تَخْصِيصَ فِيهِ، وَلَا تَعْيِينَ فِي الْمُفَسِّرِ لَهُ، وَهَذَا مُقَرَّرٌ لُغَةً، مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مِنْ عُلَمَاءِ اللِّسَانِ، وَإِنَّمَا يُفَسِّرُهُ مَا يَقْتَرِنُ بِهِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ سَاعَةً لَحْظِيَّةً، وَيَحْتَمِلُ يَوْمَ السَّاعَةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَيَحْتَمِلُ حَالَ الْعَدَمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ}.
وَلِأَجْلِ إبْهَامِهِ عُلِّقَ الْوَعِيدُ بِهِ، لِيَغْلِبَ الْخَوْفُ، لِاسْتِغْرَاقِ مُدَّةِ الْعَذَابِ نِهَايَةَ الْأَبَدِ فِيهِ، فَيَكُفَّ عَنْ الذَّنْبِ، أَوْ يَرْجُوَ لِاقْتِضَاءِ الْوَعِيدِ أَقَلَّ مُدَّةِ احْتِمَالِهِ؛ فَيَغْلِبَ الرَّجَاءُ، وَلَا يَقَعُ الْيَأْسُ عَنْ الْمَغْفِرَةِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ مِنْ الذَّنْبِ، ثُمَّ يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ.
وَتَعَلَّقَ مَنْ قَالَ: إنَّ الْحِينَ غُدْوَةٌ وَعَشِيَّةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ}، وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ نَزَعَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ ثَمُودَ: {وَفِي ثَمُودَ إذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ}.
وَتَعَلَّقَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ بِبَقَاءِ الثَّمَرِ فِي النَّخْلِ.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ: إنَّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ بِأَنَّهُ مُدَّةُ الثَّمَرِ مِنْ حِينِ الِابْتِدَاءِ إلَى حِينِ الْجَنْيِ.
وَتَعَلَّقَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى حِينٍ}.
وَتَعَلَّقَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ سَبْعُ سِنِينَ أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً بِأَخْبَارٍ إسْرَائِيلِيَّةٍ وَرَدَتْ فِي مُدَّةِ بَقَاءِ يُوسُفَ فِي السِّجْنِ بِاخْتِلَافٍ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ وَمِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ صَحِيحٌ وَفَاسِدٌ، وَقَوِيٌّ وَضَعِيفٌ؛ وَأَظْهَرُهَا اللَّحْظَةُ؛ لِأَنَّهُ اللُّغَةُ وَالْمَجْهُولُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ مِقْدَارُهُ عَلَى التَّعْيِينِ، وَالشَّهْرَانِ وَالسِّتَّةُ أَشْهُرٍ وَالسَّنَةُ لِأَنَّهَا كُلُّهَا تَخْرُجُ مِنْ ذِكْرِ الْحِينِ فِي ذِكْرِ النَّخْلَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ.
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ حِينًا فَلْيَصُمْ سَنَةً.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}.
وَرَوَى أَشْهَبُ، عَنْ مَالِكٍ قَالَ: الْحِينُ الَّذِي يُعْرَفُ مِنْ الثَّمَرَةِ إلَى الثَّمَرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}.
وَمِنْ الْحِينِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ قَوْلُهُ: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ}.
وَقَالَ أَشْهَبُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: الْحِينُ الَّذِي يُعْرَفُ قَوْلُهُ: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} فَهَذَا سَنَةٌ، وَالْحِينُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ قَوْلُهُ: {وَمَتَاعًا إلَى حِينٍ}، فَهَذَا حِينٌ لَا يُعْرَفُ.
وَقَدْ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: إنَّ الْحِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ حِينِ تَطْلُعُ الثَّمَرَةُ إلَى أَنْ تُرْطِبَ، وَمِنْ حِينِ تُرْطِبُ إلَى أَنْ تَطْلُعَ.
وَالْحِينُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، ثُمَّ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}.
وَمِنْ الْحِينِ الْمَجْهُولِ قَوْلُهُ: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}.
قَالَ الْقَاضِي: الَّذِي اخْتَارَهُ مَالِكٌ فِي الصَّحِيحِ سَنَةٌ، وَاخْتَارَ أَبُو حَنِيفَةَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَتَبَايَنَ الْعُلَمَاءُ وَالْأَصْحَابُ مِنْ كُلِّ بَابٍ عَلَى حَالِ احْتِمَالِ اللَّفْظِ.
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحِينَ الْمَجْهُولَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ، وَالْحِينُ الْمَعْلُومُ هُوَ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ، وَيَرْتَبِطُ بِهِ التَّكْلِيفُ، وَأَكْثَرُ الْمَعْلُومِ سَنَةٌ.
وَمَالِكٌ يَرَى فِي الْأَيْمَانِ وَالْأَحْكَامِ أَعَمَّ الْأَسْمَاءِ وَالْأَزْمِنَةِ، وَأَكْثَرَهَا اسْتِظْهَارًا.
وَالشَّافِعِيُّ يَرَى الْأَقَلَّ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَعَيَّنُ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ تَوَسَّطَ، فَقَالَ: سِتَّةُ أَشْهُرٍ.
وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمُقَدَّرَاتِ عِنْدَهُ لَا تَثْبُتُ قِيَاسًا، وَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ؛ وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ عَلَى الْمَعْنَى بَعْدَ مَعْرِفَةِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ لُغَةً، وَهُوَ أَمْرٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْثِلَةِ؛ وَنَحْنُ نَضْرِبُ فِي ذَلِكَ الْأَمْثِلَةَ مَا نُبَيِّنُ بِهِ الْمَقْصُودَ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَمْثِلَةٍ: الْمِثَالُ الْأَوَّلُ: فَنَقُولُ: إذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ حِينًا فَيَحْتَمِلُ رَكْعَةً عِنْدَ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ النَّافِلَةِ، وَرَكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمَا أَقَلُّ النَّافِلَةِ فَيَتَقَدَّرُ الزَّمَانُ بِقَدْرِ الْفِعْلِ.
الْمِثَالُ الثَّانِي: إذَا نَذَرَ أَنْ يَصُومَ حِينًا فَيَحْتَمِلُ يَوْمًا لَا أَقَلَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مِعْيَارُ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ؛ إذْ هِيَ عِبَادَةٌ تَتَقَدَّرُ بِالزَّمَانِ، لَا بِالْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّهُ تَرْكٌ فَلَا يَحُدُّهُ إلَّا الْوَقْتُ، بِخِلَافِ الْفِعْلِ، فَإِنَّهُ يَحُدُّ نَفْسَهُ.
وَيَحْتَمِلُ الدَّهْرَ، وَيَحْتَمِلُ سَنَةً، فَرَأَى الشَّافِعِيُّ يَوْمًا أَخْذًا بِالْأَقَلِّ، وَأَلْزَمَ مَالِكٌ الدَّهْرَ؛ لِأَنَّهُ الْأَكْثَرُ، وَتَرَكَهُ مَالِكٌ لِلْعِلَّةِ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا مِنْ أَنَّهُ مَجْهُولٌ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: عَلَيَّ صَوْمُ الدَّهْرِ لَزِمَهُ وَتَوَسَّطَ، فَقَالَ سَنَةً، فَإِنَّهُ عَدْلٌ بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ، وَبُيِّنَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي ذِكْرِ النَّخْلَةِ، وَيُعَارِضُهُ أَنَّ سِتَّةَ أَشْهُرٍ بُيِّنَ أَيْضًا، وَلَكِنَّهُ أَخَذَ بِالْأَكْثَرِ فِي ذِكْرِ النَّخْلَةِ.
الْمِثَالُ الثَّالِثُ: إذَا حَلَفَ أَلَّا يَدْخُلَ الدَّارَ حِينًا: وَهِيَ مُتَرَكِّبَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا فِي تَحْدِيدِ الْحِينِ، لَكِنَّهُ يَلْحَقُ الصَّلَاةَ فِي احْتِمَالِ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ، وَيَحْتَمِلُ سَائِرَ الْوُجُوهِ.
وَالْمُعَوَّلُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا عَلَى الْعُرْفِ فِي ذَلِكَ إنْ لَمْ تَكُنْ نِيَّةٌ وَلَا سَبَبٌ وَلَا بِسَاطُ حَالٍ؛ فَيُرَكَّبُ الْبِرّ وَالْحِنْثُ عَلَى النِّيَّةِ أَوَّلًا، وَعَلَى السَّبَبِ ثَانِيًا، وَعَلَى الْبِسَاطِ ثَالِثًا، وَعَلَى اللُّغَةِ رَابِعًا، وَعَلَى الْعُرْفِ خَامِسًا، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ اللُّغَةِ عِنْدَنَا؛ وَسَيَأْتِي ذَلِكَ مُحَقَّقًا فِي سُورَةِ ص وَغَيْرِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ. اهـ.